فلسطين أون لاين

جنين تُسقِط عقيدة عباس "المقدسة"  ‎‎

يمكن أن تشكّل عملية اغتيال عبد الرحمن خازم وأحد أفراد الأجهزة الأمنية واثنين من المواطنين على أطراف مخيم جنين، لحظةً فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتدفع المزيد من عناصر الأجهزة الأمنية للتحرر من العقيدة الأمنية التي أسسها الضابط الأمريكي كيث دايتون قبل أكثر من عقد ونصف من الزمن، آملًا أن تشكّل حمايةً أمنية للاحتلال الإسرائيلي وقطعان المستوطنين.

فبعد سنوات طويلة من تضييق الأجهزة الأمنية وملاحقة المقاومين والنشطاء واعتقالهم في مدن الضفة الغربية المحتلة -بناءً على المحددات الأمريكية والمعلومات الاستخبارية الإسرائيلية- نفّذ جيش الاحتلال هذا العام سلسلة عمليات اغتيال واجتياح في مدينتي جنين ونابلس، كان آخرها جريمة مخيم جنين بالأمس. 

تأتي العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في الضفة الغربية في محاولة جديدة لإنقاذ مشروعه الأمني، في ظل تراجع شعبية رأس السلطة الذي يقود المشهد في رام الله، وتخلّي الكثير من شركائه عنه، وتحولهم إلى خصوم سياسيين، إضافة إلى التأسيس لبداية حكم رجل الأمن المعروف بفساده ودفاعه المستميت عن "التنسيق الأمني". 

بالعودة إلى المشهد الفلسطيني عند وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يوم 11 نوفمبر 2004، وتولّي محمود عباس رئاسة منظمة التحرير وحركة فتح والسلطة الفلسطينية، كان القرار الأمريكي الإسرائيلي العمل على إعادة بناء الأجهزة الأمنية وفق عقيدة تضمن حماية أمن (إسرائيل) وتتصدى لعقيدة الفصائل الفلسطينية التي تتبنى المقاومة بكل أشكالها لتحرير الأرض الفلسطينية من نير الاحتلال.  

رشّحت الإدارة الأمريكية الجنرال كيث دايتون ليعمل منسقًا أمنيًّا بين السلطة الفلسطينية و(إسرائيل) عام 2005، وهو ضابط حاصل على الشهادة العسكرية الأولى في التاريخ، وعلى درجة الماجستير في العلاقات الدولية؛ وهو صاحب خبرة عملية عسكرية ولدية تجربة دبلوماسية واسعة. 

نجح الجنرال الأمريكي بخبرته العسكرية وحنكته الدبلوماسية واستغلال الظروف الفلسطينية الشائكة آنذاك في إعداد جنود السلطة الفلسطينية بطريقة تضمن ولاءهم، وتعزز قناعاتهم بالهدف الذي يردده على مسامعهم. 

وعلى الرغم من أن دور دايتون كانت بالأساس مجرد التنسيق مع السلطة الفلسطينية و(إسرائيل)، فإنه استطاع أن يقود السلطة الفلسطينية خاصة الأجهزة الأمنية بالطريقة التي تدفعهم إلى تنفيذ البرامج التي تضمن أمن (إسرائيل)، وتؤدي بالتالي إلى استقرار الوضع في الضفة الغربية المحتلة. 

عقب اكتساح حركة حماس المشهد الفلسطيني في إثر فوزها بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية في يناير 2006، مرورًا بأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عشية ترأسها حركة حماس لأول حكومة فلسطينية، وما رافقها من عدوان على قطاع غزة وصراع على السلطة مع حركة فتح برز اسم دايتون في المشهد الفلسطيني حتى أصبح الرجلَ الأول الذي يسيّر الأمور السياسية في الضفة الغربية، وهو الذي يتدخل مباشرة في النشاطات الأمنية، وهو الذي يقدر كيفية دعم الأجهزة الأمنية الفلسطينية وكيفية توجيهها نحو الأعمال التي ترضي (إسرائيل) وأميركا أمنيًّا وتساهم في تفكيك بنية حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة الغربية.

بمرور السنوات تطور دور دايتون حتى أصبح صاحب الكلمة المسموعة في واشنطن حول السلاح الذي يجب تقديمه للسلطة الفلسطينية، ونوعيته، وحول الأموال المطلوبة لدعم النشاطات الأمنية الفلسطينية، إضافة إلى تدخّله في تعيين المسؤولين الأمنيين في السلطة الفلسطينية. 

وكان دايتون قد استشهد في محاضرةٍ له في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط في السابع من مايو 2009 باقتباس من رجل أمن فلسطيني خلال تخريج دفعة رجال أمن فلسطينيين حيث قال الأخير: "أنتم يا رجال فلسطين قد تعلمتم هنا كيف تحققون أمن الشعب الفلسطيني وسلامته، ولم تأتوا هنا لتتعلموا كيف تقاتلون (إسرائيل)".

وفي المحاضرة ذاتها المنشورة باللغتين العربية والإنكليزية على موقع المعهد، أشاد دايتون بـ"قدرة الأمن الفلسطيني على ضبط التظاهرات التي اندلعت في الضفة الغربية، وأجهضت أي محاولة لانتفاضة ثالثة، وحوّلت العنف بعيدًا عن الإسرائيليين، وشعر الإسرائيليون بأن بإمكانهم الوثوق بالأمن الفلسطيني ونقل القسم الأكبر من قواتهم إلى غزة خلال عملية الرصاص المصبوب في يناير/ كانون الثاني 2009".

قبل دايتون، كان يتولى المهمة ضابط أمريكي يدعى وورد والمعلومات عنه شحيحة وأيضًا دوره كان يقتصر على التنسيق الأمني. 

مع اندلاع شرارة الربيع العربي وما رافقها من أحداث فارقة في تاريخ المنطقة العربية عام 2011، اختفى الجنرال الأمريكي شيئًا فشيئًا، لكنه ترك إرثه على أمل أن يوفر ما خططت له الإدارة الأمريكية وتريده (إسرائيل) إلى أن عاد الفلسطيني من جديد إلى ميدان المقاومة في الضفة الغربية المحتلة من جديد. 

ليس ذلك فحسب بل شارك الجنرال الأمريكي في تحويل جهاز المخابرات الفلسطينية إلى جهاز مساندة لـ"الشاباك" الإسرائيلي في جمع المعلومات حول المقاومة في قطاع غزة ومكان احتجاز شاليط ومخازن الأسلحة ومنشآت التصنيع العسكري والمناطق التي تطلق من خلالها الصواريخ.

رغم كل ما فعل دايتون فإن علامات فشله كانت واضحة على الأرض إذ لم ينجح في إخضاع قطاع غزة وفي تدجين فصائل المقاومة خصوصًا حركتي حماس والجهاد الإسلامي رغم العمليات العسكرية الواسعة التي نفّذها جيش الاحتلال في أعوام 2008-2009، 2012، 2014، وما يؤكد صحة هذا الطرح ما فعلته ونفذته فصائل المقاومة في معركة سيف القدس، واستمرارها في عمليات الإعداد والتجهيز للمعركة القادمة. 

مع اختفاء الرجل عن المشهد وتغيير الإدارات الأمريكية ووصول الرئيس دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة عام 2017، وموقفه العدائي من القضية الفلسطينية ورأس السلطة في رام الله، توقف الفلسطينيون عن ذكر دايتون وأصبحوا يشنّون الهجمات على ظاهرة التنسيق الأمني الذي أصبح شيئًا مقدسًا كما وصفه رئيس السلطة محمود عباس في أكثر من مناسبة.     

في الربيع الماضي بدأت (إسرائيل) تتململ مع سيل العمليات البطولية في قلب الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ومنها عملية رعد حازم، إذ وقف شاب عشريني أمام مقهى ومحال تجارية في شارع ديزنغوف في وسط تل أبيب متأملًا المشهد أمامه، قبل أن يفتح نيران سلاحه على الموجودين هناك. 

تلك العملية كان لها تداعيات كبيرة لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية في ظل أن منفذها هو ابن عقيد في جهاز الأمن الوطني الفلسطيني قبل أن يتقاعد مبكرًا، إضافة إلى خروج الرجل مفتخرًا بعملية نجلها ومطالبًا الشباب الفلسطيني بالسير على نهجه ورافضًا تسليم نفسه لسلطات أمن الاحتلال والسلطة الفلسطينية أيضًا. 

يعيش والد الشهيدين رعد وعبدالرحمن خازم مطاردًا في جنين الآن وكل يوم ينال الدعم والثناء من القطاعات الفلسطينية جميعها وبالتالي فإن هذا الرجل بما يحمله من عقيدة راسخة أصبح ركنًا أساسيًّا يهدد مشروع التنسيق الأمني وبناء الجنرال الأمريكي الذي استمر عقدًا من الزمن.